من مانشستر إلى أبها: قصة المعماري العالمي نورمان فوستر

نورمان فوستر، المعماري العالمي الذي نال ثناء الأمير محمد بن سلمان بعد تصميم مطار أبها الجديد، رحلة شخصية ومهنية تلهم العالم من شوارع مانشستر إلى مشاريع رؤية السعودية 2030.

من مانشستر إلى أبها: قصة المعماري العالمي نورمان فوستر
ثناء الأمير محمد بن سلمان يكشف عبقرية فوستر المعمارية


في الأيام الماضية، أثارت محادثة عبر تطبيق واتساب بين سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان وأمير منطقة عسير الأمير تركي بن طلال اهتمامًا واسعًا في الداخل السعودي، حين شنّد سموه عبارة أثارت إعجابًا كبيرًا: "فُوستر عظيم.. هذا مطار يليق بأبها"، كتعليق مباشر على ملف التصميم الخاص بمطار أبها الجديد الذي أُرسل إلى سموه للمراجعة والموافقة

هذه العبارة لم تكن مجرد مدح عابر، بل كانت شرارة تواصل مباشرة مع اسم عالمي، وأول جسر تواصل بين الجمهور السعودي وأعمال المعماري البريطاني الشهير نورمان فوستر. الثناء من مقام رفيع كهذا أضفى على المشروع أهمية خاصة، وجعله في مقدمة اهتمامات النخبة الإعلامية والثقافية، مما جعل اسمه يتردد بقوة في محاور العمارة والخطط التنموية.

ويُمثّل تصميم مطار أبها علامة فارقة في مسيرة التطوير الوطني وفق رؤية 2030، إذ يُعد نموذجًا معماريًا يعكس الهوية الثقافية لمنطقة عسير ويجمع بين التراث العصري والتكنولوجيا الحديثة. كلمات الثناء لم تكن مجرد إعجاب شخصي، بل إشارة حكومية واضحة إلى تبنّي فوستر لرؤية سعودية مستقبلية في العمارة والاستدامة. من هنا، يبدأ معرفة أوسع بفوستر في المشهد السعودي والعربي: ليس فقط كمعماري عالمي، بل كرمز يُعبر عن طموحات معماريّة مستدامة تتكامل مع المشاريع الوطنية الكبرى.

البدايات الشخصية والجذور المبكرة

وُلد نورمان فوستر عام 1935 في مدينة مانشستر البريطانية، تلك المدينة الصناعية التي كانت في منتصف القرن العشرين تجسد صخب الثورة الصناعية ونبض المصانع ومناطق العمل الكثيفة. نشأ فوستر في أسرة متواضعة، حيث كان والده يعمل في مصنعٍ محليٍّ فيما كانت والدته تهتم بالمنزل، وهذه البيئة البسيطة صنعت لديه مبكرًا حسًّا بالمسؤولية والانضباط، وعرّفته على العالم العملي دون رفاهية أو مبالغة.

في طفولته، كانت شوارع مانشستر هي أول مختبر بصري له؛ فقد كان يراقب المصانع والجسور والسكك الحديدية، مبهورًا بطريقة تداخل الحديد والزجاج مع العالم من حوله. هذا الانبهار البصري لم يكن مجرد فضول طفل، بل كان الشرارة الأولى لتعلّقه بالتصميم والهندسة. وبمرور الوقت، صار يقضي ساعات طويلة في الرسم ومحاكاة المباني التي يراها في مجلات العمارة أو أثناء جولاته في الأحياء الصناعية، وكأن يده تحاول التقاط روح المدينة على الورق.

واجه فوستر في سنواته الأولى تحديات اقتصادية جعلته يعمل في وظائف متواضعة لدعم أسرته، مثل العمل في بلدية مانشستر، وهناك لمس لأول مرة كيف تُدار المدن وكيف تبنى شبكاتها الخفية من البنية التحتية. هذه التجربة الواقعية لم تكن أكاديمية، لكنها أهدته حسًّا عمليًا سيظهر لاحقًا في كل تصاميمه؛ حيث سيجمع بين الجمال الفني والكفاءة الوظيفية.

كانت هذه المرحلة التأسيسية في حياة نورمان فوستر نقطة التحول التي مهدت لرحلة طويلة نحو العالمية، رحلة ستتبلور ملامحها لاحقًا حين ينطلق إلى دراسة العمارة ويصقل موهبته الفطرية بالعلم والمنهجية الحديثة.

التعليم المعماري والتكوين الفكري

بعد أن صقلت سنوات الطفولة في مانشستر شخصية نورمان فوستر العملية وحسه الصناعي، جاء القرار المصيري بدراسة العمارة ليحوّل الشغف إلى مسار حياة. التحق فوستر بجامعة مانشستر لدراسة العمارة، وهناك وجد نفسه أمام عوالم جديدة لم يكن يراها إلا في مخيلته. كانت قاعات التصميم بمثابة فضاء مفتوح للتجريب، حيث يمكن للفكرة أن تتحول من خطوط على الورق إلى نموذج مادي ملموس.

في تلك الفترة، تعرّف على الأسس الكلاسيكية للعمارة، لكنه انجذب بشدة إلى تيارات الحداثة التي بدأت تفرض حضورها في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. العمارة الحديثة بالنسبة له لم تكن مجرد خطوط نظيفة وزجاج وفولاذ، بل كانت إعلانًا عن ولادة عقل جديد للمدينة: عقل يرفض الجمود، ويحتفي بالضوء، ويبحث عن الكفاءة الوظيفية في كل تفصيل.

لم يكتف فوستر بالتعليم التقليدي في بريطانيا، بل قرر توسيع أفقه العالمي بالانتقال إلى جامعة ييل في الولايات المتحدة للحصول على درجة الماجستير في العمارة. في ييل، التقى بعقول رائدة من المعماريين والمفكرين، وهناك تشكّلت لديه فلسفة أعمق حول دور المعماري في صناعة المدن المستقبلية. كانت الولايات المتحدة في ستينيات القرن العشرين حاضنة للتجريب والإبداع، وفوستر امتصّ هذا المناخ بكل حواسه؛ إذ انبهر بالناطحات الزجاجية في نيويورك، وبمقاربة الأمريكيين العملية التي تدمج بين التصميم والهندسة والتكنولوجيا.

هذه التجربة الأكاديمية العابرة للقارات لم تمنحه مجرد شهادة، بل صاغت طريقته في التفكير: رؤية تدمج بين الدقة الهندسية والخيال المعماري، وبين احترام التاريخ الصناعي والانطلاق نحو المستقبل. وقد حمل معه هذه الرؤية ليعود إلى بريطانيا ويبدأ مرحلة التأسيس المهني التي ستضعه على خريطة العمارة العالمية.

الانطلاقة المهنية وبناء الهوية المعمارية

عاد نورمان فوستر إلى بريطانيا محمّلًا بخبرة عالمية وشغف حقيقي بإعادة تعريف العمارة في زمنها الجديد. كانت سنواته الأولى بعد العودة مليئة بالتجريب والبحث عن أسلوب خاص يميزه عن معاصريه. أدرك منذ البداية أن نجاحه المهني لن يتحقق بمجرد تكرار النماذج السائدة، بل بصياغة لغة معمارية تتحدث عن المستقبل وتجمع بين الجمال والكفاءة.

في أواخر ستينيات القرن العشرين، أسّس شركته الخاصة التي ستصبح لاحقًا واحدة من أبرز الأسماء في عالم العمارة: Foster + Partners. مع هذه البداية، قدّم فوستر مقاربة مختلفة تعتمد على ما يمكن تسميته بـ "الحداثة التقنية"، حيث يلتقي التصميم الطموح مع الحلول الهندسية الذكية. لم يكن المبنى بالنسبة له مجرد مأوى أو مساحة وظيفية، بل كائن حي يتنفس الضوء، ويتفاعل مع محيطه، ويستجيب لمتطلبات الاستدامة حتى قبل أن تصبح الكلمة شائعة.

أحد أوائل مشاريعه التي لفتت الأنظار كانت مبانٍ مكتبية وصناعية جسدت فلسفته المبكرة: خطوط انسيابية، اعتماد جريء على الزجاج والحديد، وإيمان بأن المبنى يمكن أن يكون أداة لتعزيز إنتاجية مستخدميه. وبمرور الوقت، بدأت الصحافة المعمارية تلتفت إلى هذا المعماري الشاب الذي لا يكتفي بإعادة رسم المباني، بل يعيد تعريف علاقتها بالمدينة والمستخدم.

هذه المرحلة كانت بمثابة إعلان ميلاد الهوية المعمارية لنورمان فوستر، هوية تجمع بين الجرأة التقنية والنقاء البصري والفكر الوظيفي. لقد رسم ملامح مدرسة خاصة به قبل أن يشيع اسمه عالميًا، واضعًا الأسس لمشاريعه الكبرى التي ستغيّر وجه العمارة في العقود التالية.

المشاريع الكبرى والتأثير العالمي

مع دخول نورمان فوستر مرحلة النضج المهني، لم تعد أعماله مجرد مبانٍ محلية في بريطانيا، بل تحولت إلى مشاريع أيقونية على مستوى العالم، جسدت فلسفته المعمارية التي تمزج بين الحداثة التقنية والبعد الإنساني والجرأة الجمالية. لقد أصبح اسمه مرادفًا للمشاريع التي تغيّر شكل المدن وتعيد تعريف علاقتها بالبشر والبيئة.

من بين أبرز أعماله برج 30 سانت ماري آكس في لندن، المعروف شعبيًا باسم The Gherkin، والذي أصبح رمزًا للمدينة الحديثة بواجهته الزجاجية الملتفة وتصميمه البيئي المبتكر الذي يقلل استهلاك الطاقة. لم يكن هذا البرج مجرد تحفة بصرية، بل نموذجًا عمليًا للمباني الذكية التي تتنفس مع المدينة وتتكامل مع مناخها الحضري.

كما أبدع فوستر في جسر ميلو في فرنسا، الذي يعد أحد أعلى الجسور في العالم وأحد أعظم إنجازات الهندسة المدنية الحديثة. يجمع هذا المشروع بين الأناقة الهيكلية والانسيابية البصرية، وكأنه خط يربط السماء بالأرض دون أن يثقل المشهد الطبيعي المحيط به.

وفي آسيا، ترك بصمته في مطار هونغ كونغ الدولي، الذي عكس فلسفة "المكان الحي" بتصميم يراعي التدفق السلس للمسافرين والإضاءة الطبيعية والمساحات الرحبة. وقد اعتبر هذا المطار تحفة هندسية تجمع بين الكفاءة التشغيلية والجمال المعماري، وهو ما جعله مرجعًا عالميًا لتصميم المطارات الحديثة.

حصد فوستر خلال هذه المسيرة أرفع الجوائز العالمية في العمارة، بما في ذلك جائزة بريتزكر التي تُعرف بـ"نوبل العمارة"، تقديرًا لإسهاماته في صياغة معمار المستقبل. لم يكن تأثيره مقتصرًا على الأبنية التي صمّمها، بل امتد إلى تغيير طريقة تفكير المدن نفسها في علاقتها بالبيئة والتكنولوجيا والمجتمع.

الإرث الشخصي والفلسفي

لا يمكن اختزال إرث نورمان فوستر في المباني والجسور وحدها، فالرجل ترك وراءه فلسفة متكاملة في العمارة والحياة المهنية. بالنسبة له، لم تكن العمارة مجرد ممارسة فنية أو تقنية، بل كانت أسلوب تفكير وطريقة حياة تعكس رؤية عميقة لعلاقة الإنسان بالمدينة وبالزمن.

على الصعيد الشخصي، عُرف فوستر بصرامته وانضباطه ودقته المتناهية في التفاصيل، وهي صفات تشكّلت منذ طفولته في مانشستر الصناعية. كان يؤمن بأن النجاح المهني لا ينفصل عن بناء شخصية متوازنة تلتزم بالقيم العملية مثل المثابرة والمرونة والاستعداد المستمر للتعلّم. هذه القيم انعكست في إدارته لشركته Foster + Partners، حيث أنشأ بيئة عمل تشجع على الابتكار الجماعي والاستفادة من كل عقل مبدع، مؤمنًا بأن العمارة العظيمة هي نتاج فرق متعددة التخصصات، وليست مجهودًا فرديًا فقط.

أما على الصعيد المهني والفلسفي، فقد كان فوستر سفيرًا لفكرة أن العمارة مسؤولية أخلاقية تجاه المستقبل. كان يرى أن كل مبنى يجب أن يكون استثمارًا طويل المدى في الإنسان والبيئة، وأن التكنولوجيا ليست غاية في ذاتها بل أداة لخلق فضاءات أكثر رحابة ومرونة وجمال. وبذلك ساهم في تعزيز مفهوم الاستدامة المعمارية قبل أن تصبح موضة عالمية، واضعًا المعايير التي ستقتدي بها أجيال من المعماريين من بعده.

الإرث الأعمق الذي يتركه نورمان فوستر يكمن في إلهام المهنيين والأفراد على حد سواء. فقصته تحكي عن شاب نشأ في بيئة بسيطة، واستطاع بعزيمته ورؤيته أن يصبح رمزًا عالميًا يغيّر مدنًا بأكملها. هذه الرحلة تحمل رسالة واضحة: إن الخيال حين يقترن بالانضباط والعمل الجاد قادر على صناعة تأثير عالمي، سواء في العمارة أو أي مجال آخر.

قصة نورمان فوستر ليست مجرد سيرة لمعماري عالمي، بل هي رحلة إلهام لأي شخص يسعى لترك بصمة في العالم. بدأ شابًا في شوارع مانشستر البسيطة، محاطًا بالمصانع والجسور الحديدية، لكنه حمل في داخله إيمانًا بأن الخيال حين يقترن بالانضباط والعمل الجاد قادر على اختراق الحدود. واليوم، اسمه يسطع في سماء السعودية مع مشاريع رؤية 2030، ليؤكد أن الأحلام العظيمة تجد طريقها إلى الواقع عندما تلتقي بالرؤية الواضحة والجهد المتواصل. رسالة فوستر لكل قارئ هي:

ابدأ من حيث أنت، تعلم بلا توقف، واصنع لنفسك مسارًا لا يشبه أحدًا، فالعالم يفسح الطريق للعقول التي تصمم مستقبلها بشجاعة وإبداع.